غربة
بقلم نور الفياض
هذا الكان الذي افترضتَ بدايةً أنه محطة مؤقتة أصبح يلاصقك كعلامة فارقة..
هل لأنه مؤقتاً أصبح أبدياً؟ كالقبر لا يمكن الهروب منه أو مغادرته حتى الفرح والمسرات الصغيرة والانتصارات العابرة التي تتوهم أنك تفوز بها.. إنها مؤقتة باهتة هنا، هشة وتنحول بسرعم إلى حزن يكوي القلب وإلى بكاء لا يعرف التوقف. هذه الانتصارات مشوهة، ولا تشبه مثيلاتها التي تحدث في الوطن، كأن الأمر سر يستعصي على الفهم والتفسير.
عند زيارتي الأولى للبلاد، البلاد التي أحملها في قلبي وتحملني في عينيها، أصبحت أقارن كل المدن بها وأقول لنفسي في كل مرة: لا شيء أجمل منها.. لا شيء. أكتب عنها في كل مرة أشتاق لها كي أحتفظ بها على هيئة نصوص حتى وإن لم أعد إليها.
لا شيء يشبه الوطن بعد غربة طويلة، أن أكون متصلة بالأرض التي أمشي عليها، أن أكون مواطنة لهذه الأرض، أن أمشي في شوارع عاش فيها أجدادي طوال حياتهم، أن كل الذين حولي يتكلمون لهجة واحدة، كان شعوراً يستعصي على الفهم والتعبير.
في زيارتي اللاحقة أصبحت حريصة أن أوثق بالصور كل معالم بغداد، كل الشوارع والبنايات والمساجد، كل الآثار التي شوهها التاريخ بقسوته، وكل الناس الذين يحملون في داخلهم ألف قصة عن حياتهم فيها. كنت أحاول أن أنقل صورة جميلة عن بغداد غيرالنمطية التي تنقلها محطات التلفاز والجرائد، حاولت أن أري العالم بغداد التي نحب، التي لا يغادرها أهلها رغم استطاعتهم، ببساطة لأنهم يحبون العيش فيها.
أكتب لأن الكتابة هي وطن في المنفى، لأنها الخلاص الوحيد، ولأنها الدليل والوحيد على وطنيتي بعد أن أرحل. لا يوجد ما يدل على أني من بغداد سوى لهجتي وسمار بشرتي وشعري الأسود، لا البومات عائلة تشملني ولا احتفالات شهدتها عائلتي بنجاحي أو تخرجي.
أكتب عن بغداد التي أحب، التي أحاول أن أصل إليها من خلال الكتابة عنها. عن سيدة الثقافة والجمال التي تبهر الجميع بروحها الحية رغم ألف محاولة لقتلها.
يظن الجميع بأن في الغربة رفاهية لا نجدها في الوطن، وأنها راحة من الأزمات. هم لو يجربوا أن يبقوا وحيدين في منفى، أن لا يُطرق الباب عليهم مهما حصل لهم، أن لا يجدوا عائلة يحتفلون معها بالانتصارات. لم يجربوا فقد الاحبة الذين لم يشبعوا منهم ولم يعانوا من الحرمان من لذة الأعياد والمنسابات، ولم يختفوا من البومات صور العائلة شيئاً فشيائاً حتى أصبحوا ذكرى.
أفكر بالأصدقاء الذين جعلوا في الغربة لي وطناً صغيراً، كيف سأفارقهم إلى الوطن الأكبر؟ هل سيكونون لي وطناً مهما فرقت بيننا الجغرافيا؟ هل سيحملونني في قلوبهم دائماً للأبد؟ لا أدري، لكن ما أعرفه أنني سأفعل.
لا يخيفني أن أعود بقدر ما يخيفني أن أحيا هنا كسرابٍ للأبد، أفكر بالصعاب التي قد تواجهني وأقارنها بمرارة الغربة فأجد في كل الصعاب فرصة وفي الاستسلام والبقاء مهانة. أحزم اليوم حقائبي لأعود إلى بغداد كي أحظى بقليل من حبها الذي يكفي الجميع دائماً.