قصيدتان

بقلم أسماء عزايزة

طوابير تحت أشجار التوت

لقد حجزت دوري مسبقًا
لكن قيل لي إنّه لن يحن
 
أسمع صوتًا يغمغم في الداخل
هذا صوتي الأجشّ
وهذه نحنحتي، قلتُ للبوّاب
أشجار التوت تنبح في الخارج
العصافير تربّت على قلبها
بيدي هدمتُ الأسوار بين صحوي ومنامي
بفمي رضعت من ثدي الوهم فصار أمّي
 
أهل القرية يتحلّقون حول طقس الولادة
أقنعتهم بأنّ ذلك أمر شديد العاديّة
فثمّة ميتات لا تقتل. هذه واحدة منها
حفرنا القبر
وأخرجناه
 
أبي يقفُ بيننا ويقول إنّ الحياة مسخرة كبيرة
 
لا وجود لقصص الحبّ تُحفر مثلما يُحفر اسم جنديّ في خندق القلب
لا وجود للذائذ مدسوسةً في أفواه الأسى
لا وجود للأسى وهو يحرّضنا على البكاء
لا وجود للبكاء وهو يحرث طريق الرّضى
لا وجود لأشجار التين
رغم أنّ ثمارها تدحرجت فوق رأس أبي الضاحك
ربّما لا وجود لنا
خارج هذا الطّابور
 
نصطفّ مثل رمال مبلولة
تدلّنا نجمةٌ واحدة فوق جبين إله واحد
لكن لا أحد يتحدّث إلى أحد
 
ثمّت طوابير للذين لم ترض الحياةُ عنهم
المنحوسين الواجفين الذين تبرّعوا بأدوارهم للموتى
وجدت نفسي بينهم
أبيع أوراقي في السوق السوداء
لأدخل من الباب الخلفيّ.

ثورة على جدران فمي

رأيتُ في المنام إصبعًا مجهولة تزلزل أسناني
فسمعتُ دويّ سقوطها
سنًّا سنًّا
 
قالت العربُ
إن رأيتِها سقطت إلى الأرض فهي الموت
إن سقطتْ مقاديمها منعتك من الفعل والكلام
وإن سقطتْ كلّها هلك أهلكِ وبقيتِ بعدهم
 
استيقظتُ فوجدتُ فمي مُغرًا
صحتُ فامتصّ اللانهائيّ صيحتي المشروخة
نطقتُ فغابت لغتي في الحجر
قلتُ ما يهمّني
سأخرج بفم فارغ
لكن بقلب ملآن
 
خرجت فوجدت اسمي يستغيث من الغرق
مددتُ له يدي فنهرتني الرّيح
عليّ باسمٍ جديد للزمن الجديد
حيث صفحات الكتب جميعها بيضاء
أنهرنا مصبوغةٌ بأفكارنا
الثورة حذاء واسع
وأقدامنا صغيرة
 
أهلي طافون على ظهورهم
يلوّحون في طريقهم إلى النسيان
 
معلّقٌ أبي فوق مشجب الغياب
التاريخ مُطفأ في ضرسه الذهبيّ
يبتسم كأنّ الحياة كانت مجرّد نكتة
سقطت ضحكاتنا وصارت النكتة ثقيلة دم
 
هممت في رثائه
فقفزت الفصاحةُ في قارب الخوف
ثمّ لحقتها فراخ المعاني المُغمَضة
 
هممت بقول كلمة واحدة
لا بل نصف كلمة مثل: لو أنّ
ناديتها ففرّت مثل جنيّة
“لو أنّ أبي حيًّأ”
لكنّ أبي ظلّ يموت فوق موته
 
صرتُ شجرةً على ضفّة النهر
جزّت جذوري وازرقّت ذكرياتي
حلمت بأحلامي تسقط من فمي
وتصير في قعر النهر أحفورة
رحل العرب ولم يتركوا لي اللغة ولا التفاسير
 
رحلت حروبٌ قديمة وأخرى لم تحدث
رحلت بعد أن سقطت أسنانها هي الأخرى
وقيل لها لا خبز لك هنا ولا دمّ
أُكل هذا وتخثّر ذاك
 
هذا هو العالم الذي رُفعت سماؤه
ونُصبت جباله وثار أبناؤه من أجل العدالة
انظروا إليه
ها هو يمشي مكلومًا فوق جسورٍ لم تُبنى سوى في خياله
تنبطحُ جباله على بطونها
ويهرهر أبناؤه مثل فلين منشور
 
لم يتبقّ غيري على الضفّة
شجرةٌ مقطوعة من شجرة
مرّت عنّي أجيال لا تُحصى
حتّى قامت الرسوم من جدران فمي
 
تذكّرت كلمة من الماضي الآسن
وكدت أنطقها
 
بل ثلثَها
 
بل لعلّي لم أنطقها
 
لعلّي فكّرت بها
 
فأدار العالم عنقه
همّت أجسادٌ عملاقةٌ بالنهوض
وأطلّ اسمي المبلول برأسه الكبير
 
منذها
منذ آلاف السنين
وأنا أسمع صريرًا طويلًا
ودويّ أسنان العالم السّاقطة.

أسماء عزايزة شاعرة وكاتبة ومحرّرة فلسطينيّة تعيش في مدينة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة وأنطولوجيا شعريّة. حصل ديوانها الشعريّ الأوّل “ليوا” على جائزة الكاتب الشاب في حقل الشعر من مؤسسة عبد المحسن القطان عام 2010. أصدرت بعده “كما ولدتني اللديّة” (الأهليّة/ 2015) و”لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب” (المتوسط، 2019) والتي صدرت عام 2020 باللغتين الهولنديّة والسويديّة. أصدر مشروعها “فناء الشعر” أنطولوجيّا شعريّة لشعراء من فلسطين وألمانيا (الأهليّة، 2017). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. وقد ترجم بعض من قصائدها إلى الإنجليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والسويديّة والإسبانيْة والسلافيّة والتركيّة وغيرها.
 
عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة ككاتبة ومحرّرة، وفي التلفزة كمقدّمة برامج تلفزيونيّة، ومديرة فنيّة لمتجر فتوش للكتب والفنون ومعرض الكتاب وجاليري فتّوش في حيفا. تعمل في الوقت الحالي محرّرة في موقع رصيف22. 

الموقع الرّسمي